سورة الشورى - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {شَرَعَ} أي: بيَّن وأظهر {لكم من الذين ما وَصَّى به نوحاً} ومَن بعده مِن أرباب الشرائع، وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم السلام، وأمَرَهم به أمراً مؤكداً. وفي بيان نسبته إلى المذكورين تنبيه على كونه ديناً قديماً، أجمع عليه الرسل، على أن تخصيصهم بالذكر لِمَا ذكر من علو شأنهم، ولاستمالة قلوب الكفرة إليه؛ لاتفاق الكل على نبوة جُلهم. قيل: خصّ نوحاً وإبراهيم بالوصية، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ لأن متعلق الوصية غير الموصي، بل الموصى إليه به، ومتعلق الوحي: الموحى إليه بذاته، ولمَّا كان صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء جعل المُلقى إليه وحياً، ولمَّا كان ما قبله من الأنبياء متبعين له، ومنذِرين بشريعته، أنه سيظهر آخر الزمان نبي اسمه محمد، كان ذلك وصية منهم لقومهم على الإيمان به. انظر ابن عرفة.
قلت: والظاهر أنه تفنُّن، وفرار من تكرار لفظ الوحي؛ إذ الموحى به هو قوله: {أنْ أقيموا الدِّين} وهو الذي أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام. وقال أبو السعود: والتعبير عن ذلك عند نسبته صلى الله عليه وسلم ب {الذي} لتفخيم شأنه من تلك الحيثية، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة يعني في صدر السورة من قوله: {كذلك يُوحي إليك...} وفي آخرها من قوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}، ولِما في الإيحاء من التصريح برسالته صلى الله عليه وسلم القامع لإنكار الكفرة. والالتفات إلى نون العظمة إظهاراً لكمال الاعتناء بإيحائه، وهو السر في تقديمه على ما قبله مع تقدمه عليه زماناً. وتقديم وصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً أي: فلا ينبغي إنكاره وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين؛ للتشريف، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام. اهـ.
ثم فسَّر ما وصاهم به فقال: {أنْ أقيموا الدينَ} أي: دين الإسلام، الذي هو توحيد الله تعالى، وطاعته، والإيمان بكتبه ورسله، وبيوم الجزاء، وسائر أركان الإيمان. والمراد بإقامته: تعليل أركانه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ، والمواظبة عليه، والتشمير في القيام به. وموضع {أن أقيموا} إما: نصب، بدل من مفعول {شرع}، أو: رفع، خبر جواب عن سؤال مقدَّر، كأن قائلاً قال: وما ذاك؟ فقال: هو إقامة الدين. {ولا تتفرقوا فيه}؛ ولا تختلفوا في الدين، فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب، والمراد: الاختلاف في الأصول، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار، كما ينطق به قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48].
{كَبُرَ على المشركين} أي: عظم وشقّ عليهم {ما تدعوهم إِليه} من التوحيد، ورفض عبادة الأصنام، الذي هو إقامة الدين، {اللهُ يجتبي} أي: يجلب ويجمع {إِليه مَن يشاء} بالتوفيق والتسديد، {ويهدي إِليه مَن يُنيبُ}؛ يُقبل على طاعته. فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب، والإنابة إلى توفيق الطاعة في الظاهر.
{وما تَفرقوا} أي: أهل الكتاب من بعد أنبيائهم {إِلا مِن بعد ما جاءهم العلمُ}؛ إلا بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال، وأمر متوعّد عليه على ألسنة الرسل، {بغياً بينهم} حسداً، وطلباً للرئاسة، والاستطالة بغير حق، أو: ما تفرّقوا في الدين الذي دُعوا إليه، وهو الإسلام، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم إلا مِن بعد ما جاءهم العلم بحقيقته؛ لما يشهدونه في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن من دلائل الحقيّة، حسبما وجدوه في كتبهم، أو: العلم بمبعثه صلى الله عليه وسلم.
{ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك}، وهي العِدَة بتأخير العقوبة {إِلى أجلٍ مسمى} هو يوم القيامة {لقُضي بينهم} أي: لوقع القضاء بينهم، وأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترنوا. {وإِن الذين أُورثوا الكتاب مِن بعدهم} وهم المشركون {لفي شك منه} أي: القرآن {مُريبٍ}؛ مُوقع في الريبة. وهو بيان لكيفية كفر المشركين، بعد بيان كيفية كفر أهل الكتاب، أي: وإن المشركين الذي أُوتوا القرآن من بعدهم، أي: من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم، لفي شك من القرآن مريب. والظاهر: أن التفرُّق المذكور هنا إنما هو في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن سياق النظم إنما هو لبيان أحوال هذه الأمة، وإنما ذكر مَن ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم، أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيداً لوجوب إقامته، وتشديداً للزجر عن التفرُّق والاختلاف. فالتعرُّض لبيان تفرُّق أممهم عنه ربما يُوهم الإخلال بذلك المرام. قاله أبو السعود.
الإشارة: الذي شرع الله من الدين لأقوياء عباده، ووصّى به خواص أنبيائه: أن يشاهدوه وحده في الباطن، ويقوموا برسم العبودية في الظاهر، وهذا هو إقامة الدين، الذي يجب الاتفاق عليه، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس، وحط الرؤوس، وبذل الفلوس. ولذلك كَبُرَ على أهل الفَرْق، قال تعالى: {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه}، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم، وسلك طريقه؛ اجتباه ربه لحضرته، بعد أن هداه لسلوك طريقته. قال تعالى؛ {الله يجتبي إليه مَن يشاء ويهدي إليه مَن ينيب} فالاجتباء جذب، والإنابة سلوك، الاجتباء للحقيقة، والإنابة للشريعة والطريقة. وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماماً بأمره؛ لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية، والإنابة هداية ينالها كل مَن تمسّك بالشريعة. وحقيقة الجذب: شهود الخلق بلا خلق، وحقيقة السلوك المحض: شهود الخلق بلا حق، وحقيقة الجذب في السلوك: شهود الحق في قوالب الخلق، أو: شهود الخلق في مظهر الحق.
فالناس ثلاثة: مجذوبون فقط، سالكون فقط، مجذبون سالكون، فالأولان لا يصلحان للتربية، والثالث هو الذي يصلح للتربية، وهو الذي يتقدمه السلوك، ثم يختطف إلى الحضرة في مقام الفناء، ثم يرجع إلى السلوك في مقام البقاء. وما وقع من التفرُّق والاختلاف في جانب النبوة، يقع في جانب الولاية، سُنَّة ماضية، فيجب على الداعي إلى الله أن يجهد نفسه في الدعاء إليه، ولا يبالي باختلافهم


يقول الحق جلّ جلاله: {فلذلك فادْعُ} أي: فلأجل ذلك التفرُّق، ولما حدث بسببه من تشعُّب الكفر شعباً، فادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفيّة القيّمة، {واستقِمْ} عليها، وعلى الدعوة إليها {كما أُمرتَ}؛ كما أمرك الله. أو: لأجل ما شرع لكم من الدين القويم القديم، الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، فادع الناس كافة إلى إقامته، والعمل بموجبه؛ فإن كلاًّ من تفرقهم وشكِّهم، سبب للدعوة إليه والأمر بها، أو: فإلى ذلك الدين المشروع فادع، واستقم عليه، وعلى الدعوة إليه، كما أُمرت وأوحي إليك.
{ولا تتبع أهواءهم} الباطلة، وعقائدهم الزائغة، {وقل آمنتُ بما أنزلَ اللهُ من كتاب} أيّ كتاب كان من الكتب المنزلة، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وهم أهل الكتاب، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء: 151]، وفيه تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أهل الكتابين، وتعريض بهم. {وأُمرتُ لأعْدِلَ بينكم} في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ، أو: في تبليغ الشرائع والأحكام، لا أخص بعضاً دون بعض، أو: لأُسوِّي بيني وبينكم، ولا آمركم بما لا أعملُ به، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. أو: لا أفرق بين أكابركم وأصاغركم. واللام: إما على حقيقتها، أي: أمرت بذلك لأعدل، أو: زائدة، أي: أمرت أن أعدل بينكم.
{اللهُ ربُّنا وربُّكم} خالقنا جميعاً، ومتولي أمورنا، كلنا عبيده، {لنا أعمالنا} لا يتخطانا ثوابها أو عقابها، {ولكم أعمالكم} لا يجاوزكم وبالها إلى غيركم، أو: لنا ديننا التوحيد، ولكم دينكم الشرك. {لا حُجةَ بيننا وبينكم} أي: لا خصومة؛ لأن الحق قد وضح، ولم يبق للمحاجّاة حاجة، ولا للفصاحة محل، سوى المكابرة. {اللهُ يجمع بيننا} يوم القيامة {وإِليه المصيرُ}؛ المرجع، فيظهر هناك حالنا وحالكم. وهذه محاججة، لا متاركة، فلا نسخ فيها.
{والذين يُحاجُّون في الله}؛ يُخاصمون في دينه {من بعد ما اسْتُجيبَ له}؛ من بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا فيه، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً...} [البقرة: 109]، والتعبير عن ذلك بالاستجابة؛ باعتبار دعوتهم إليه، أو: من بعد ما استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأيّده بنصره، كيوم بدر، أو: من بعد ما استجاب له أهل الكتاب، بأن أقرُّوا بنعوته صلى الله عليه وسلم، واستفتحوا به قبل مبعثه. وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خيرٌ منكم، فنزلت: {والذين يُحاجون...} الآية. {حُجتُهم داحضةٌ}؛ باطلة، {عند ربهم}، وإذا كانت داحضة من حيث كونه ربّاً رؤوفاً فأحرى من حيث كونه قاهراً منتقماً. وسمّاها حُجة، وإن كانت شُبهة؛ لزعمهم أنها حُجة. {وعليهم غَضَبٌ} عظيم، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره {ولهم عذاب شديدٌ} لا يُقادر قدره.
الإشارة: إذا استولت الغفلة على الناس، وتفرّقت القلوب، يجب على أهل البصيرة النافذة أن يتحركوا لوعظ الناس وتذكيرهم، ولا يلتفتون إلى أهوائهم، وما هو مشغوفون به من حظوظهم. قال تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم} فتدعون الناس إلى التوحيد، وإقامة الشرائع، بامتثال الأوامر، واجتناب المناكر، ثم يدسونهم إلى حضرة الحق، إن رأوا منهم مَن هو أهله، فمَن فعل هذا كان قدره عند الله عظيماً، وجاهه كبيراً. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده؛ إن شئتم لأُقسمنّ لكم: إِنَّ أحب عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويُحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة».
ومن وظيفته أن يقول: آمنتُ بما أنزل الله من كتاب، وما بعث من نبي ووليّ، وأمُرتُ لأعدل بينكم في الوعظ، والنصيحة، وإمداد المدد، لكن يأخذ كل واحد على قدر صدقه وتعظيمه، ثم يقول: {الله ربنا وربكم}، يخص برحمته مَن يشاء، لنا أعمالنا: ما يليق بنا من عبادة القلوب، ولكم أعمالكم: ما تطيقونه من عبادة الجوارح، لا خصومة بيننا وبينكم؛ لأن قلوبنا سالمة لكم. الله يجمعُ بيننا وبينكم في الدنيا بجمع متصل، وإليه مصير الكل بالموت والفناء. والذين يُحاجون في الله، أي: يخاصمون في طريق الله، ويقولون: انقطعت التربية، حُجتهم داحضة، وعليهم غضب البُعد، ولهم عذاب الكدّ والتعب.


يقول الحق جلّ جلاله: {اللهُ الذي أنزل الكتابَ}؛ القرآن، أو: جنس الكتاب، {بالحق}؛ ملتبساً بالحق في أحكامه وأخباره، أو: بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام، {والميزانَ}؛ وأنزل العدل والتسوية بين الناس، أي: أنزله في كتبه المنزلة، وأمر به، أو: الشرع الذي يُوزن به الحقوق، ويساوي بين الناس. وقيل: هو عين الميزان، أي: الآلة، أنزله في زمن نوح عليه السلام. {وما يُدريكَ} أيَّ شيء يجعلك عالماً {لعلَّ الساعةَ} التي أخبر بها الكتاب الناطق بالحق {قريبٌ} مجيئها. وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر، وقيل: وجه المناسبة في ذكر الساعة مع إنزال الكتاب: أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية، والعمل بالشرائع، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم، ووزن أعمالكم.
{يستعجلُ بها الذين لا يؤمنون بها} استعجال إنكار واستهزاء، {والذين آمنوا مُشْفِقُون}؛ خائفون {منها} وجلون؛ لهولها، {ويعلمون أنها الحقُّ} الكائن لا محالة، {أَلا إِنَّ الذين يُمارون في الساعة}؛ يجادلون فيها، من: المرية، أو: المماراة والملاحاة، أو: من: مريت الناقة: إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب؛ لأن كُلاًّ من المتجادلين يُخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. {لفي ضلالٍ بعيدٍ} عن الحق؛ لأن قيام الساعة أظهر من كل ظاهر، وقد تواترت الشرائع على وقوعها، والعقول تشهد أنه لا بد من دار الجزاء، وإلا كان وجود هذا العالم عبثاً.
{اللهُ لطيف بعباده} أي: برٌّ بهم في إيصال المنافع ودفع المضار، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدي الأفكار والظنون. وقيل: هو مَن لطُف بالغوامض علمه، وعظُم عن الجرائم حلمه، أو: مَن ينشر المناقب ويستر المثالب، أو: يعفو عمَّن يهفو، أو: مَن يعطي العبد فوق الكفاية، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: الظاهر حمل العباد على ما اصطفاه، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق، ومن ذلك: حمايتهم من الدنيا، ومما يطغى من الرزق، وعليه ينزل قوله: {يرزق مَن يشاء}. اهـ. أي: يرزق على حسب مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة. وفي الحديث: «إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك».
وأما قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فهو وعد لجميع الخلق، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا، فلا منافاة بينهما، خلافاً لابن جزي؛ لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها. انظر الحاشية.
{وهو القويُّ}؛ الباهر القدرة، الغالب على كل شيء، {العزيزُ} المنيع؛ الذي لا يُغْلَب.
الإشارة: الميزان هو العقل؛ إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع، كالذهب، والإكسير، والفضة، والطيب الرفيع، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة، دون الخشينة، كميزان العطار وشبهه، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة، كميزان الغزالين والحاكة، وبعضها لا يصلح إلا للخشين، كالفحم وشبه، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين، فالأول عقول العارفين، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد، لا يصلح لغيرها، والثاني للعباد، والزهّاد، والعلماء الصالحين، والثالث للمتجمدين من العلماء، والرابع لعامة المؤمنين، والخامس للفجار والكفار، وفيهم نزل: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها...} الآية، وما قبله هو قوله: {والذين آمنوا مشفقون منها}.
وقوله تعالى: {اللهُ لطيف بعباده}، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه: أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه: تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية؛ لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه: توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه: حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه: إيهام العاقبة؛ لئلا يتكلموا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد: إخفاء أجله عليه؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه: ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهراً، وعبدوه شكراً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6